قال الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
[فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان].
قَالَ المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
[هذا تقرير للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين بل وفي غيرها بغير علم. وقال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36] وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير)) [الحج:3-4]، وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ))[الحج 8-9] وقال تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))[القصص:50] وقال تعالى: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)) [النجم:23] إِلَى غير ذلك من الآيات الدالة عل هذا المعنى.
وعن أبي أمامة الباهلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أو توا الجدل ثُمَّ تلا: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)) [الزخرف:58]} رواه التِّرْمِذِيّ، وقَالَ: حديث حسن. وعن عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم} خرجاه في الصحيحين] اهـ.

الشرح:
يقول الطّّحاويّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان] وهذا زيادة في التأكيد والتنبيه والتحذير من الخوض في دين الله بغير علم، ومن عدم الاقتناع والتسليم بما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن من تتبع أو رام أمراً مما حظر علمه من أمور الغيب، كمعرفة كيفيات صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومعرفة كيفية عذاب القبر ونعيمه، وأحوال يَوْمَ القِيَامَةِ، وأحوال الجنة والنار، وأمثال ذلك مما لا يستطيع الإِنسَان أن يدركه عَلَى حقيقته، فمن رام أن يعلم حقيقة ذلك، وتكلفه ولم يقنع بالتسليم، فإن هذا الفعل يصرفه عن أن يكون ذا توحيد خالص وإيمان صحيح، ومعرفة ويقين كما أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ولهذا جَاءَ المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- بالآيات الدالة عَلَى النهي عن الجدال في آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا هو الجدال المذموم الذي بسببه تفرقت الفرق، وكثرت الأهواء، وتباينت الضلالات، لأنه جدال بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فالمؤمنون إذا بلغهم شيء عن الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنوا وأذعنوا، أما الكفار فحالهم ما ذكر الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ولهذا توعدهم بقوله تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36] أي: مسئول عن كل ما يقوله اللسان، أو يجول في الفؤاد، أو تراه العين.
فالإِنسَان مسئول عن هذه الأعضاء التي ملكه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إياها؛ فلا يجوز لأحد أن يَقْفُ ما ليس له بعلم، وأن يتكلف فوق ما أمره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من التسليم والانقياد ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير)) [الحج:3] وهذا حال كثير من النَّاس وفي الآية الأخرى يقول -سبحانه:- ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ)) [الحج:8] فالوعيد في الدنيا خزي وضلال، وفي يَوْمِ القِيَامَةِ عذاب الحريق، وهذا هو حال كل من أعرض عن دين الله، كما سيأتي إن شاء الله في أبيات عبد الله بن المبارك
.